فصل: الآية رقم ‏(‏2‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة النصر

 الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏

النصر‏:‏ العون مأخوذ من قولهم‏:‏ قد نصر الغيث الأرض‏:‏ إذا أعان على نباتها، من قحطها‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إذا انسلخ الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وأنصري أرض عامر

ويروى‏:‏

إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي بلاد تميم وأنصري أرض عامر

يقال‏:‏ نصره على عدوه ينصره نصرا؛ أي أعانه‏.‏ والاسم النصرة، واستنصره على عدوه‏:‏ أي سأله أن ينصره عليه‏.‏ وتناصروا‏:‏ نصر بعضهم بعضا‏.‏ ثم قيل‏:‏ المراد بهذا النصر نصر الرسول على قريش؛ الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ نصره على من قاتله من الكفار؛ فإن عاقبة النصر كانت له‏.‏ وأما الفتح فهو فتح مكة؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما‏.‏ وقال ابن عباس وسعيد بن جبير‏:‏ هو فتح المدائن والقصور‏.‏ وقيل‏:‏ فتح سائر البلاد‏.‏ وقيل‏:‏ ما فتحه عليه من العلوم‏.‏ و‏{‏إذا‏}‏ بمعنى قد؛ أي قد جاء نصر الله؛ لأن نزولها بعد الفتح‏.‏ ويمكن أن يكون معناه‏:‏ إذا يجيئك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏2‏)‏

‏{‏ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ورأيت الناس‏}‏ أي العرب وغيرهم‏.‏ ‏{‏يدخلون في دين الله أفواجا‏}‏ أي جماعات‏:‏ فوجا بعد فوج‏.‏ وذلك لما فتحت مكة قالت العرب‏:‏ أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان‏.‏ فكانوا يسلمون أفواجا‏:‏ أمة أمة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ والأمة‏:‏ أربعون رجلا‏.‏ وقال عكرمة ومقاتل‏:‏ أراد بالناس أهل اليمن‏.‏ وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون؛ فسر النبي صلى الله عليه وسلم لك، وبكى عمر وابن عباس‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم، لينة طباعهم، سخية قلوبهم، عظيمة خشيتهم، فدخلوا في دين الله أفواجا‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة الفقه يمان، والحكمة يمانية‏)‏‏.‏ وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمين‏)‏ وفيه تأويلان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه الفرج؛ لتتابع إسلامهم أفواجا‏.‏ والثاني‏:‏ معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن، وهم الأنصار‏.‏ وروى جابر بن عبدالله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا‏)‏ ذكره الماوردي، ولفظ الثعلبي‏:‏ وقال أبو عمار حدثني جابر لجابر، قال‏:‏ سألني جابر عن حال الناس، فأخبرته عن حال اختلافهم وفرقتهم؛ فجعل يبكي ويقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون من دين الله أفواجا ‏(‏

 الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فسبح بحمد ربك واستغفره‏}‏ أي إذا صليت فأكثر من ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ معنى سبح‏:‏ صل؛ عن ابن عباس‏{‏بحمد ربك‏}‏ أي حامدا له على ما آتاك من الظفر والفتح‏.‏ ‏{‏واستغفره‏}‏ أي سل الله الغفران‏.‏ وقيل‏{‏فسبح‏}‏ المراد به‏:‏ التنزيه؛ أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له‏.‏ ‏{‏واستغفره‏}‏ أي سل الله الغفران مع مداومة الذكر‏.‏ والأول أظهر‏.‏ ‏"‏روى الأئمة واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها‏"‏ قالت‏:‏ ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ إلا يقول‏:‏ ‏(‏ سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي‏)‏ وعنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي‏)‏‏.‏ يتأول القرآن‏.‏ وفي غير الصحيح‏:‏ وقالت أم سلمة‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال‏:‏ ‏(‏سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه - قال - فإني أمرت بها - ثم قرأ - ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ إلى آخرها‏)‏‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ اجتهد النبي بعد نزولها، حتى تورمت قدماه‏.‏ ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما يبكيك يا عم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعيت إليك نفسك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إنه لكما تقول‏)‏؛ فعاش بعدها ستين يوما، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في منى بعد أيام التشريق، حجة الوداع، فبكى عمر والعباس، فقيل لهما‏:‏ إن هذا يوم فرح، فقالا‏:‏ بل فيه نعي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ صدقتما، نعيت إليّ نفسي‏)‏‏.‏‏"‏ وفي البخاري وغيره عن ابن عباس‏"‏ قال‏:‏ كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم‏.‏ قال‏:‏ فوجد بعضهم من ذلك، فقالوا‏:‏ يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله فقال لهم عمر‏:‏ إنه من قد علمتم‏.‏ قال‏:‏ فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ فقالوا‏:‏ أمر الله جل وعز نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه‏.‏ فقال‏:‏ ما تقول يا ابن عباس‏؟‏ قلت‏:‏ ليس كذلك، ولكن أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم حضور أجله، فقال‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏، فذلك علامة موتك‏.‏ ‏{‏فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا‏}‏‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ تلومونني عليه‏؟‏ وفي البخاري فقال عمر‏:‏ ما أعلم منها إلا ما تقول‏.‏ رواه الترمذي، قال‏:‏ كان عمر يسألني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عبدالرحمن بن عوف‏:‏ أتسأله ولنا بنون مثله‏؟‏ فقال له عمر‏:‏ إنه من حيث نعلم‏.‏ فسأله عن هذه الآية‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏‏.‏ فقلت‏:‏ إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه إياه؛ وقرأ السورة إلى آخرها‏.‏ فقال له عمر‏:‏ والله ما أعلم منها إلا ما تعلم‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ فإن قيل‏:‏ فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار‏؟‏ قيل له‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه‏:‏ ‏(‏رب اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني‏.‏ اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي‏.‏ اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم وأنت المؤخر، إنك على شيء قدير‏)‏‏.‏ فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا‏.‏ ويحتمل أن يكون بمعنى‏:‏ كن متعلقا به، سائلا راغبا، متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق؛ لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال‏.‏ وقيل‏:‏ الاستغفار تَعَبُدٌ يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبدا‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك تنبيه لأمته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار‏.‏ وقيل‏{‏واستغفره‏}‏ أي استغفر لأمتك‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنه كان توابا‏}‏ أي على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم‏.‏ وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره‏؟‏ ‏"‏روى مسلم عن عائشة‏"‏ قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله‏:‏ ‏(‏سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏خَبّرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ - فتح مكة - ‏{‏ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا‏.‏ فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا‏}‏‏)‏‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع؛ ثم نزلت ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوما‏.‏ ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما‏.‏ ثم نزل ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما‏.‏ ثم نزل ‏{‏واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله‏}‏ فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما‏.‏ وقال مقاتل سبعة أيام‏.‏ وقيل غير هذا مما تقدم في البقرة بيانه، والحمد الله‏.‏